الاثنين، 14 ديسمبر 2015

المحاضرة السادسة: مدخل إلى علوم الإعلام و الاتصال

المحاضرة السادسة: الإشاعة



 1) التعريف اللغوي للإشاعة:
الشائعة هي الشاعة، أي الأخبار المنتشرة، و هي جمع شائع. جاء في لسان العرب: شاع الشيب: انتشر، و شاع الخبر: ذاع، و الشاعة: الأخبار المنتشرة، و رجل شيّاع، مشياع: لا يكتم سرّا. أمّا المعجم الوسيط، فقد أورد كلمة الشائعة و الإشاعة، كونها: الخبر ينتشر غير مثبّت منه، أي خبر لا صدق فيه  و غير صحيح.

2) التعريف الاصطلاحي للإشاعة:
الإشاعة هي نشر المعلومة أو الخبر بصفة غير منتظمة، دون التحقّق من صحّته. تنشر هذه الأخبار بين عدد كبير من الناس، بصفة سرّية، كونها تتنكّر لمصادرها و تمتنع عن ذكرها. و هي تنشر أخبارا وهميّة، و قد تكون حقيقيّة، لكنّها تُلبسها كثيرا من التحريف و التحوير. و هي عمليّة لا تتمّ      في وقت واحد، كما هو الشأن في عمليّة الإعلام، لكنّها تتمّ بتدرّج زمني، و تنتقل من شخص إلى آخر. و بالتالي فهي تستعمل غالبا الاتصال الشخصي، و تعتمد عليه في شيوعها و سريانها بين الناس. و قد تتناقلها وسائل الاتصال الأخرى بصفة عمديّة أو غير مقصودة.
بما أنّ الإشاعة تكتسي صفة السرّية، فهي بمثابة إعلام موازي، يعيش إلى جانب الإعلام الرسمي، يُغذّيه و يتغذّى منه، ينافسه و يزاحمه، يطارده أحيانا، و أحيانا أخرى يُكمِّله و ينمّيه. و لكنّ هذا التجانس ليس مطردا، الأمر الذي يدفعنا إلى شرح هذه الظاهرة خلال ثلاث نقاط رئيسيّة:

1. مقدار التحريف في الإشاعة:
أجرى العديد من علماء الاتصال و علماء النفس الاجتماعي تجارب لدراسة هذه الظاهرة، منهم الأمريكي ألبورت، في كتابه (علم نفس الإشاعة)، حيث جمع ستّة أشخاص، قام بعزلهم عن بعضهم البعض، ثمّ أظهر للأوّل منهم صورة تُمثِّل مشهدا حربيّا، غير أنّ بعض ملامحه غير واضحة، و طلب منه بعدها أن يصفها للثاني الذي لم يرها، ثمّ طلب من هذا الثاني أن يصفها للثالث، و هكذا حتى وصلت إلى الشخص السادس. كانت النتيجة أنّ الوصف الذي قدّمه الشخص السادس عن سماع فقط، هو غيره تماما الوصف الذي قدّمه الأوّل عن شهادة. استطاع ألبورت بهذه التجربة و أخرى تُشبهها (مقطع فيلمي عن رجل أبيض يضرب زنجيّا بسكين)، أن يقيس مقدار التحريف الذي يطرأ على المعلومة عندما تنتقل، حتى تصبح إشاعة، حيث لاحظ ثلاثة أشياء:
أ‌. الخبر في تنقّله يصبح ضعيفا و تضيع منه كثير من التفاصيل ذات الأهمّية، و قد قُدِّر هذا الضياع من شخص إلى آخر في هذه التجربة بهذه الأرقام: إذا كان 100 عند الشخص الأول، يصبح 67 عند الثاني، ثمّ 54 عند الثالث، 36 عند الرابع، حتى تصبح المعلومات ضائعة كلّها عند الشخص الخير.
ب‌. بعض التفاصيل من الصورة أخذت أهمّية كبيرة بعد انتقالها من شخص إلى آخر، حتى أنّها شوّهت حقيقة الحدث الذي كانت تمثّله الصورة.
ت‌. التفاصيل التي تضيع هي تلك التي لا تُمثِّل في اعتقاد الأشخاص شيئا، أمّا التفاصيل التي تبقى، فهي تلك التي يجد لها الأشخاص مدلولا خاصّا يركِّزون عليه، ربّما أكثر من التفاصيل الرئيسيّة.

2. علاقة الإشاعة بالإعلام:
تقول القاعدة في هذا المجال: وجود الإعلام ينفي وجود الشائعات، و انعدام الإعلام يجعل الشائعات تنتشر، و وجود إعلام ضعيف، يجعل الشائعات تتكاثر.

3. أغراض الإشاعة:
تظهر الإشاعة انطلاقا من حدث وقع بالفعل، فتحرّفه و تحوّله حسب الهواء و الاحتياجات التي يشعر بها مجتمع معيّن في ظرف معيّن. تظهر الإشاعة كذلك انطلاقا من وهم لا علاقة له بحدث معيّن، لكن له علاقة بنفس الاحتياجات و الأهواء التي توجد في مجتمع معيّن و ظرف معيّن. و كيفما كانت الحالة، فإنّ هذه الأغراض كثيرة و متنوّعة، ترجع في الغالب إلى نفسيّة المجتمع و ظروفه الخاصة.
حاول الأستاذ الفرنسي ألفريد صوفي شرح هذه الأغراض و لخّصها حسب الحالات التالية:
أ‌. إذا كانت المصالح المادّية مهدَّدة، فإنّ تزييف الخبر يرمي إلى إعطاء برهان للدفاع عن المصالح المذكورة؛ فالعامل ذو الموارد البسيطة لا يريد أن يكون الغلاء في السوق، لذا يقيم الإشاعة حول احتمال ارتفاع الأسعار.
ب‌. عندما تصادف الإشاعة مطمحا من مطامح المجتمع مهدّدا؛ كالإشاعة التي انتشرت في الجزائر سنة 1979م التي تقول بأنّ منظّمة اليونسكو وجّهت توبيخا إلى الجزائر على رداءة مستوى التعليم الموجود  في مدارسها، فالخبر ليس له أيّ أساس من الصحّة، و اليونسكو ليس لها أيّة صلاحية في توجيه توبيخ إلى عضو ينتمي إليها، غير أنّ هذه الإشاعة صدّقها الناس و تقبّلوها، حتى المثقّفين منهم، متجاهلين معرفتهم بالظروف التي تعمل فيها اليونسكو. صدّقها المجتمع الجزائري لأنّها صادفت مطمحا هامّا     من مطامحه مهدّد، و هو الحق في وجود تعليم رفيع، و رداءة التعليم السائد من شأنها توليد مثل هذه الشائعات.
ت‌. إذا كان الخبر يتعلّق بقضيّة تُهمّ المجموعة أو المجتمع، و تحريفه يرمي إلى تثبيت وحدتها و تأييد كفاحها. و هنا تدخل جميع قضايا الشعوب المستضعَفة، كما أنّها تشمل جميع حالات الحرب. تنتشر الإشاعة في هذه الحالات لتُعزِّز وجود و بقاء المجموعة المهدَّدة. ففي أثناء الثورة التحريرية الجزائرية، انتشرت شائعات كثيرة تُخوِّل للمجاهدين قوّة و صفات هي في الحقيقة وليدة الخيال.
ث‌. تكون الإشاعة دائما ضعيفة إذا كانت عن وهم و ناتجة عن سؤال لا يعتمد على حدث وقع بالفعل. التحريف الذي يطرأ على الخبر في هذه الحالة، يضعُف بقدر ما يكون السؤال أدقّ، لعدم امتلاك تفاصيل حول الموضوع أو معطيات بشأنه.

المحاضرة الخامسة: مدخل إلى علوم الإعلام و الاتصال

المحاضرة الخامسة: الدعاية



1) الدلالة القديمة للدعاية:
ترجع اللفظة الإيطاليّة للدعاية propaganda إلى الفعل اللاتيني propagare، التي تعني إعادة غرس الجذر أو العسلوج ليعطي نباتا جديدا في مكان جديد. و هي تمثّل جماعة أو خطة منظّمة لنشر معتقد أو ممارسة، أو إنها جهود و خطط و مبادئ هذا النشر. أسس هذه الجماعة البابا أوربان الثامن Urban VIII سنة 1633م، تحت تسمية Congregatio de propaganda fid، لتتولى مهمّة التبشير الخارجي للكنيسة الكاثوليكية.
أمّا في اللغة العربية، فإنّ أصلها: دعاوة، و دعا إلى الشيئ، و دعوى، و دعاية، و هي   في مجملها تعني نشر الدعوة إلى شيئ أو الترغيب في الشيئ.

1) التعريفات الحديثة للدعاية:
 استنبط علماء الاتصال و السياسة و غيرهم هذا المفهوم القديم، و استعملوه في تعريفات حديثة  لا تمسّ فقط الجانب الديني، من بينهم:
أ‌. تعريف كيمبل يونغ: هي استخدام الرموز على نحو متعمّد منظَّم و مخطّط من خلال الإيحاء أساسا  و ما يتّصل به من تكتيكات و تقنيات نفسية، قصد تغيير و ضبط الآراء و الأفكار و القيم و تغيير الأفعال الظاهرة في نهاية الأمر عبر خطوط حُدِّدت سلفا. و قد تكون الدعاية واضحة و القصد منها معلنا، أو قد تخفي مقاصدها. و هي تقع دائما في نطاق اجتماعي ثقافي، لا يمكن بدونه أن تُفهَم ملامحها النفسية و الثقافية.
ب‌. تعريف لاندلي فريزر: الدعاية نشاط أو فنّ يستهدف استمالة الناس ليتصرّفوا بطريقة ما كانوا سيتصرّفون بها في غياب الدعاية. و الدعاية و إن كان المقصود بها هو العمل في المجال السياسي،  إلّا أنّها تستغلّ جميع جوانب الحياة كالدين، الاقتصاد، الرياضة، التربية و التعليم، و لكن مقصدها النهائي يبقى دائما سياسيا. و هي تستميل السلوك الإرادي بوسائل الترغيب، أي أنّ محاولات التأثير بوسائل العنف أو الإكراه عموما، لا تدخل في المعنى المقصود بهذه الكلمة.
ت‌. تعريف والتر ليبمان: الدعاية هي: محاولة التأثير على عقول الجماهير و نفوسهم و السيطرة  على سلوكهم لأغراض مشكوك فيها، و ذلك في مجتمع معيّن و زمان معيّن.
ث‌. لم يكن علماء اللغة و القانون فقط من حاول تعريف الدعاية، بل علماء الاجتماع و النفس و العلوم السياسية و الصحفيين كذلك، نجدهم يتّفقون على أنّ الدعاية هي: فنّ التأثير و الممارسة و السيطرة     و الإلحاح و التغيير و الترغيب أو الضمان لقبول وجهات النظر و الآراء أو الأعمال أو السلوك  أو كلاهما معا. و ذهب آخرون إلى أنّ الدعاية يجب أن تكون منسَّقة و منظَّمة و متعمَّدة أو مقصودة. يُعرّفها هارولد لاسويل كما يلي: " تتّخذ الدعاية شكل وسائل قد تكون صورا خطية أو كلامية  أو تصويرية"، ثمّ فسّر ذلك في كتابه (الدعاية و النشاط الدعائي) قائلا: " ليست القنابل، بل الكلمات  و الصور و الأغاني و الاستعراضات و الحيل الأخرى المتعدّدة هي الوسائل النموذجية للدعاية ". بعدها عرّف لاسويل الدعاية تعريفا موجزا، فقال: " الدعاية هي الاحتيال عن طريق الرموز".

3) خصائص الدعاية:
تتميّز الدعاية بخاصّيتين أساسيّتين و متلازمتين، هما:
1. النشر أو الانتشار: هي صفة أخذتها من عمليّة الاتّصال؛ فالدعاية تُقام إذا كان عند أصحابها فكرة أو مجموعة آراء يريدون نشرها بين الناس، فالهدف الأول من الدعاية هو جعل أكبر عدد من الناس يتعرّفون على هذه الأفكار و الآراء. لهذا تلجأ الدعاية إلى جميع الوسائل المعروفة في الاتّصال، كالاتّصال الشخصي و الجمعي و الجماهيري، مستخدمة مختلف الأدوات الاتّصاليّة، كالمنشورات، الملصقات، السينما، المسرح، الأغاني، الكتاب، الرقص، الرياضة، و غيرها..
2. التضخّم أو التضخيم: بمعنى استعمال لغة غير عاديّة، فيها الكثير من المبالغة و المفاضلة في نشر الآراء و الأفكار، للفت أنظار الناس و التفافهم حولها.و بما أنّ الدعاية تبحث عن نشر الآراء و الأفكار، فإنّها لا تتعلّق بأذهان الناس، إلا إذا صدمت أفكارهم بقوّة و عنف. يعني بتضخيم الأفكار الجديدة و تقديمها في صورة غير عاديّة، تُزحزح الأفكار العاديّة الثابتة.
الحقيقة أنّ التضخيم في الدعاية يعتمد على بعض القواعد أو الأساليب، نذكر منها:
1. التبسيط و عدم التعقيد؛ فالآراء المعقَّدة لا يتقبّلها الناس و ينفرون منها، لأنّها تتطلّب جهدا ذهنيّا كبيرا، لذا تُبسّطها الدعاية إلى أقصى حدّ ممكن، حتى تصبح شعارات يُردّدها الجميع و يدركها كلّ فرد في المجتمع، مهما كان ذكاؤه أو مستواه التعليمي أو الثقافي.
2. خلق منافس أو خصم أو عدوّ، حتى يقتنع الناس بمحاربته، لأنّه أصل كلّ بلاء و شرّ و السبب في كلّ العراقيل و العثرات و الهفوات.
3. التكرار مع تجديد الأسلوب؛ و هي عمليّة مقترِنة، حتى لا تخلق الدعاية شيئا من الملل، فالتكرار أسلوب بيداغوجي لتدعيم الأفكار الجديدة، و تجديد الأسلوب في العرض و الشرح و التبسيط، يجعل الدعاية تؤدّي مهمّتها في تلقين هذه الأفكار.
4. استغلال الأحداث لنقل و نشر الأفكار الجديدة أو لإظهار ضرورتها و نجاعتها. هذه النقطة مرتبطة بالتكرار، لأنّ وقوع هذه الأحداث يُعتبر فرصة للقيام بعمليّة التكرار، إذ هي حجّة موضوعيّة، قد يكون مفعولها أكبر و تأثيرها أقوى.
5. خلق اتّفاق جماهيري أو الإيحاء بوجوده، حتى تحدث العدوى و تنتشر الأفكار الجديدة بسهولة، و هو الهدف من كلّ دعاية. يحصل ذلك بإقامة مهرجانات، تجمّعات و احتفالات كبرى، يحضرها عدد كبير من الناس، يهتفون خلالها بالشعارات التي تنادي بها الدعاية.

4) أنواع الدعاية:
يمكن تقسيم الدعاية في أساسيّاتها إلى ثلاثة أنواع، هي:
1. الدعاية البيضاء: هي دعاية مكشوفة غير مستورة، تمارس نشاطها علنا لتحقيق أهدافها، مصدرها معروف بالنسبة لأفراد المجتمع، و هو المصدر الحقيقي أو الفعلي، و أهدافها الفعليّة معروفة كذلك.
2. الدعاية السوداء: هي دعاية مستورة غير مكشوفة، تقوم أساسا على نشاطات المخابرات السرّية، و هي لا تكشف عن مصادرها الحقيقيّة، و لا أهدافها، لكنّها تنمو و تتولّد بطرق سرّية داخل أرض العدوّ أو على مقربة منها.
3. الدعاية الرماديّة: و هي دعاية تخشى من أن يقف الناس على مصادرها الحقيقيّة، كونها تُظهر مصادر على أساس أنّها هي الفعليّة، لكن المصدر الحقيقي متواري خلفها، كما تُظهر أهدافا تُصرّح بها للناس على أنّها الأهداف الفعليّة، لكنّها تُخفي أهدافها الحقيقيّة.


5) الفرق بين الإعلام و الدعاية:
تختلف الدعاية عن الإعلام في عدّة نواحي، نجملها فيما يلي:
1. يُقدِّم الإعلام أفكارا مجرَّدة، و ليس له غرض معيّن فيما ينشره على الناس، سوى الإعلام في ذاته، بينما تهدف الدعاية إلى غاية معيّنة، ألا و هي تغيير أو تعديل أو تثبيت الآراء و السلوكيّات. إلا أنّ هذا لا يمنع رجل الدعاية من استغلال حقائق مجرّدة في تأييد وجهة نظره. من ناحية أخرى، رجل الإعلام   قد يحمل أو ينقل للمتلقّي أفكارا، غلا أنّه يظلّ موضوعيّا في نقل هذه الأفكار.
2. تختلف الدعاية عن الإعلام في أنّ مصدر المعلومات في الدعاية قد يكون غير معروف، أمّا في الإعلام، فإنّ مصدر المعلومات يجب أن يكون معروفا دائما.
3. يعمل الإعلام على توسيع المشاركة الجماهيرية بهدف التوصّل إلى إشراك الجمهور في وضع القرار، بينما الدعاية هدفها هو إضعاف روح المشاركة و إشاعة روح اليأس و السلبيّة.
4. ينهج العاملون في الدعاية أساليب لا تتّفق مع الأخلاق و المبادئ، كالكذب، التمويه، المبالغة، الشائعات، الإيحاء، التضليل للوصول إلى أهدافهم، عكس الإعلاميّين الذين يتحرّون الصدق، الأمانة، يحترمون أخلاقيّات المهنة و أخلاقيّات و مبادئ و قيم و معتقدات المجتمع.
5. يعمل الإعلام على تقديم مختلف وجهات النظر بهدف تمكين الجماهير من إصدار أحكامهم، أمّا الدعاية فإنّها تعرض وجهات النظر التي تتّفق مع أغراضها.
6. تعتمد الدعاية في عملها على التعبيرات البرّاقة و الشعارات، و لا تعتمد الشرح الكافي للحقائق، بينما الإعلام يعتمد على الحقائق الثابتة المستنِدة على الأرقام و الإحصائيّات.
7. تعتمد الدعاية على الإيحاء و التقليد، و تستغلّ في ذلك سلبيّة الفرد، و لا تدع له فرصة للتفكير الهادئ المتعمّق، و تعتمد على تضييق منطقة التردّد لدى الأفراد و الجماعات قدر الإمكان، مستغلّة في ذلك جهل الجمهور بالحقائق و حالاته النفسيّة، بينما الإعلام يعمل على جعل المتلقّي في حالة     من الإيجابيّة و المشاركة.
8. الدعاية لا يُهمّها سوى تحقيق أهدافها، مع التضحية بكلّ شيئ في سبيل تحقيقها، فهي لا تُعنى بإيقاظ الجماهير، و إنّما تخديرهم و شلّ قوّة التفكير فيهم و إيقاظ غرائزهم، عكس الإعلام الذي يهدف التنوير   و إبلاغ الجماهير بما يحدث و طرح التوجّهات و الآراء المختلفة.

المحاضرة الرابعة: عوامل فعالية المرسل



المحاضرة الرابعة: عوامل فعالية المرسِل.

1) المفهوم العام للمُرسِل:
يُطلق عليه كذلك: المَصدر. و هو العنصر الأساسي في عمليّة الاتّصال. هو الطرف الذي تنطلق منه الرسالة، أو النقطة التي تبدأ عندها عمليّة الاتّصال، مستهدفة من خلالها التأثير في الآخرين، حتى يُشاركوه أفكاره و أحاسيسه و اتّجاهاته. هو القائم بصياغة الرسالة، يقوم بنقلها عن أطراف أخرى قامت بإعدادها. قد يكون فردا أو مجموعة أفراد أو هيئات أو مجتمعات. تقع عليه مهمّة ترميزها و وضعها في صورة ألفاظ أو رسوم أو أرقام أو أشكال قابلة للفهم من جهة الطرف الآخر (المستقبِل). يُعتبَر المرسِل كذلك متلقٍّ في ذات الوقت لردود أفعال مستقبِل الرسالة، ممّا يؤدّي إلى قيامه ببناء مواقف اتّصال جديدة في ضوء ردّة الفعل تلك، فيُعدِّل في الرسالة من حيث صياغتها، بما يتناسب و السياق العام و الهدف الذي يرومه منها.
يُسمّى المرسِل كذلك: القائم بالاتّصال. هو شخص يستهدف التأثير في الناس بأفكار لديه خلفيّة واسعة عنها، يؤمن بها، و يُصدر عنها سلوكه و تصرّفاته، مستخدما لذلك كافة إمكانيّات وسائل الإعلام و الاتصال المتاحة و مختلف الأساليب الإقناعيّة لتحقيق التأثير المطلوب، و ذلك وفق منهج علمي و فنّي مدروس و مخطّط و مستمرّ.
تتفاوت المفاهيم التي وضعتها المدارس الإعلاميّة للقائم بالاتّصال، فقد اتّجهت بعض الدراسات إلى تعريفه من منظور القدرة على التأثير في المتلقّي، و عرّفته بأنّه يشمل من لديهم القدرة على التأثير بشكل أو بآخر في الأفكار و الآراء. و عرّفه فريق آخر من منظور الدور في عمليّة الاتّصال بأنّه: الشخص الذي يتولّى إدارة العمليّة الاتّصاليّة و تسييرها. و على ضوء ما يتمتّع به من قدرات و كفاءات  في الأداء، يتحدّد مصير العمليّة الاتّصاليّة برُمّتها. و حدّدته دراسات أخرى بأنّه الذي يؤدّي دورا فعّالا   و مباشرا في إنتاج الرسائل الإعلاميّة و الاتّصاليّة.
تطرح المدرسة الفرنسية في الإعلام مفهوما آخر للقائم بالاتّصال، إذ تطلق عليه لقب (الوسيط)، على أساس أنّ الصحفي يقوم بأدوار متعدِّدة، فهو يبحث عن المعلومة و يختار مضمون الرسالة، ثمّ يتوجّه بها إلى الجمهور، و هو بذلك يلعب دورا تفاوضيّا بين صانع المعلومة (المصدر) و الجمهور (المتلقي).
إنّ ما يجدر التنويه به في هذا الإطار هو أنّ المصدر ليس بالضرورة هو القائم بالاتّصال، فمندوب التلفزيون أو المراسل، قد يحصل على خبر معيّن من موقع الأحداث، ثمّ يتولّى المحرِّر صياغته و تحريره، و يقوم مقدِّم النشرة بإلقائه. هذا، و قد أشارت بعض الدراسات إلى أنّ كُلاًّ من المحرِّر و المندوب و ملقي النشرة الإخباريّة هو بمثابة قائم بالاتّصال، و إن اختلف الدور، بينما يذهب باحثون آخرون إلى أنّ القائم بالاتّصال هو مُلقي النشرة (المذيع) فقط، أي من يظهر بشكل واضح و يتعامل   مع المتلقّي.

2) عوامل فعالية المرسل:
حدّد ألكسيس تان العوامل التي تجعل المرسِل مؤثّرا و فعّالا تجاه جمهوره من خلال العوامل الثلاث التالية:
أ) المصداقيّة:
يُقصَد بها: المدى الذي يتمّ فيه رؤية المرسِل كخبير، يعرف الإجابات الصحيحة و ينقل الرسائل بدون تحيّز. تنبع هذه الخبرة لدى المرسِل من خلال عدّة عوامل مثل: التدريب، الخبرة بالموضوع، القدرة على الاتّصال بما تحتويه من مهارات: الكلام، الكتابة، التعبير، الاحترافيّة و الوضع الاجتماعي.
المصداقيّة ــــ كما عبّر عنها أرسطو ــــ في كتابه: البلاغة، هي من الصفات التي تجعل المرسِل مؤثِّرا؛ و من هذه الصفات: الأمانة، الصدق، السمعة و النزاهة؛ فالمرسِل حينما يكون صادقا و غير متحيِّز و على مستوى عالٍ من الخبرة و المعرفة بموضوعه، جدير بالثقة، متمتِّعا بصورة ذهنيّة ممتازة لدى جمهوره، فإنّه يُحقِّق درجة عالية من الإقناع لرسالته.
يُشير عنصر الثقة إلى إدراك المتلقّي عن المرسِل بأنّه يشارك في الاتّصال بشكل موضوعي و دون تحيّز، و هو في هذه الحالة لن يجني شيئا لقبول المتلقّي توصيات الرسالة، لأنّ المصدر الموثوق فيه يميل إلى تقديم معلومات موضوعيّة عمّا يمكن أن يحدث في العالم الحقيقي، و بالتالي فإنّ التوصيات التي تقوم على هذه المعلومات يمكن تصديقها، إلّا أنّ المشكلة عادة ما تكمن في أنّ الشخص الخبير   قد لا يكون موثوقا فيه.
يأتي أصل كلمة ثقة في اللّغة الإنجليزيّة Trust من كلمة Trauster في اللّغة الاسكندينافيّة القديمة، و معناها: قوِيّ Strong، و هو نفس الجذر اللّغوي لكلمة: صواب True. فنحن نثق في شخص ما، عندما نؤمن بأنّه قويّ، بمعنى أنّه يُعتَمد عليه و لن يخذلنا. و كذلك بما نؤمن بأنّه صواب. و الآخرين أيضا لا يؤمنون بنا، إلّا عندما يؤمنون بأنّنا أقوياء و أنّنا لن نخذلهم. و على ذلك، فالعلاقة التي تقوم على الثقة المتبادلة، تحدث فقط بين شخصين قويّين. و بينما يمكن إقامة الألفة في وقت قصير، تأخذ الثقة وقتا طويلا لتكوينها، لأنّنا نحتاج إلى اختبار قوّة الشخص الآخر تدريجيّا لنرى ما سيكون منه. و من ثمّ فالعلاقة التي تنشأ على أساس من الثقة المتبادلة، هي من أكثر العلاقات إشباعا و إرضاءً لأطرافها.
تُشير معظم نتائج البحوث إلى درجة الارتباط العالية و الوثيقة بين صدق المرسِل و الثقة فيه من جانب الجمهور، و درجة الاستقبال و التصديق التي تلقيها الرسالة الاتّصاليّة التي يقدّمها هذا المرسِل. ترتبط هذه النتائج بما يُسمّى (مصداقيّة المرسِل) أو قابليّة المرسِل للتصديق أو الثقة فيه،   و التي تشير في مجملها إلى أنّ الرسائل الاتّصاليّة التي يتمّ بثّها من مصادر عالية التصديق تزيد من درجة إقناعيّة الرسالة ذاتها.
حدّد هوفلاند و جانيس Hovland & Janis الخصائص و المكوِّنات التي تجعل المتلقّي يُصدِّق المرسِل في عاملين:
1. الخبرة أو الكفاءة: فالمتلقّي يُدرِك الخبرة أو الكفاءة من الطريقة التي تُقدَّم بها الرسالة و من معرِفة المرسِل بالموضوع.
2. قدر الثقة في المرسِل: يتمّ إدراك الثقة من نيّة القائم بالاتّصال و هدفه من تقديم الحجج و العبارات.
من جهة أخرى، حدّد بيرلو و لمبرت و مرتز Berlo & Lumbert & Mertz ثلاث خصائص محدّدة، اعتبروها من المكوِّنات التي تدخل في تحديد صدق المرسِل، و هي:
1. الأمانة و الطمأنينة: يُتناول عامل الأمانة بقدر الطمأنينة التي يغرسها المرسِل في المتلقّين؛ فإذا أحسّ الجمهور بأنّ المرسِل إنسان أمين، صادق، ودود و نزيه، فسيثقون فيه و يؤمنون بما يقوله. و ليس من الضروري أن يتمتّع المرسِل بكل هذه السمات، و لكن أن يكون لديه ما يكفي للإيحاء بالثقة.
2. مؤهِّلات المرسِل: يعكس عنصر المؤهِّلات و الخبرة كفاءة أو خبرة المرسِل بالنسبة للموضوع  الذي يعرضه. فإذا تمّ إدراك المرسِل على أنّه مدرَّب، متمرِّس، ماهر و عليم، يزداد تصديقه. و لكن إذا بدا غير مدرَّب و غير متمرِّس، تنخفض قدرته على التأثير و يقلّ تصديقه.
3. الديناميكيّة: يشير هذا العامِل إلى أنّ المرسِل يُظهِر في الظرف الاتّصاليّ إمّا طاقة ونشاطا، و إمّا قد يبدو متعَبا. فإذا تمّ إدراكه على أنّه قادر على التقمّص الوجداني، و مِقدامٌ نشِط، فإنّ ذلك يُعبِّر عن درجة عالية من التصديق بالنسبة لهذا العامل. و لكن إذا بدا المرسِل خجولا، سلبيّا و مرهَقا، تنخفض درجة تصديقه.

ب) الجاذبيّة:
ربّما كان المحامي جيري بيني أفضل من أوجز في وصف جاذبيّة الشخصيّة، عندما قال عنها:     " جاذبيّة الشخصيّة طاقة تنبع من منطقة القلب؛ فإذا لم يكن لدى المتحدّث شعور، فلن يكون لديه شيئ ليوصله. تحدث جاذبيّة الشخصيّة، عندما يوصِل المتحدّث مشاعره بأرقى و أنقى صورة ممكنة لغيره. و ليست جاذبيّة الشخصيّة شعورا ضعيفا أو خفيّا، بل هي شعور خام. جاذبيّة الشخصيّة هي توصيلنا ما لدينا من طاقة خام صافية، و حماس خام و خالص إلى الآخرين."
تتحقّق الجاذبيّة حين يكون القائم بالاتّصال قريبا من الجمهور في النواحي النفسيّة و الاجتماعيّة و الأيديولوجيّة. إنّنا نُحبّ القائم بالاتّصال الذي يساعدنا على التخلّص من القلق، الضغط، التوتّر و عدم الأمان، و يساعدنا في اكتساب القبول  الاجتماعي و الحصول على ثواب شخصيّ لأنفسنا.
ركّز كثير من الباحثين على محدِّدات خاصّة لقياس الجاذبيّة، مُتمثِّلة في التشابه، التماثل، المودّة و كذلك المحبّة، و ذلك بناءًا على الفرض القائل بأنّ: " المصدر أو القائم بالاتّصال ذا الجاذبيّة سيكون أكثر تأثيرا من الشخص المحايد أو الذي ليست له الجاذبيّة في عمليّة الاتصال". و ذلك من خلال  ما يلي:
أ) ينجذب الناس إلى الأشخاص الذين يشبهونهم و يتأثّرون بهم عن أولئك الذين يختلفون عنهم؛ حيث هناك عنصران للكشف عن التشابه أو التماثل، الأوّل: التشابه في الخصائص الديموغرافيّة، و الثاني: التشابه في الخصائص الفكريّة أو العقائديّة، فالمتلقّي يميل إلى التأثّر بالقائم بالاتّصال الذي يشاركه خصائصه العامّة، مثل: العمر، التعليم، المهنة، مستوى الدخل، الدين، العرق، مقرّ الإقامة، و غيرها، حيث يرى المتلقّي أنّه يمكن التوحّد معه، لأنّه غالبا ما يكون له نفس الحاجات و الأهداف. كذلك يميل المتلقّي إلى القائم بالاتّصال الذي يشاركه في الآراء و الاتّجاهات. يرى الباحثون أنّ عنصر الخصائص الفكريّة أو العقائديّة أكثر قوّة من التشابه الديموغرافي.
ب) تزيد المودّة من التفاعل بين الأشخاص، ممّا يدفعهم إلى الانجذاب نحو بعضهم.
ت) التشابه و المودّة يقودان إلى المحبّة، و المحبّة تشير إلى التشابه مع القائم بالاتّصال.
أمّا فيما يخصّ الجاذبيّة العضويّة (المظهر)، فقد بيّنت نتائج دراسة تشاين إلى أنّ جاذبيّة القائم بالاتّصال يمكن أن تكون أكثر تأثيرا عن غيره الأقل جاذبيّة، فقد وجدت أنّ الأحكام بين الاثنين ترتبط بالإحساس بالصداقة و الأكثر طلاقة في الحديث، و إن لم يختلفا في ثقتهما الصوتيّة، أو نَظَراتهما أو ابتسامتهما. و قد سجّلت الدراسة رصدا لقدرة أصحاب الجاذبيّة العضويّة على الإقناع ليس بسبب الجاذبيّة فقط، و لكن ــــ حسبما افترضت الباحثة ــــ بسبب امتلاكهم لخصائص و مهارات أخرى تُسهِّل عمليّة الإقناع.
المعروف بوجه عام أنّ النّاس حَسَني الهيئة يحوزون ميزة التفاعل الاجتماعي، إلّا أنّ النتائج الحديثة تشير إلى أنّنا قد نكون قد أخطأنا تقدير حجم و درجة تأثير تلك الميزة، إذ يبدو أنّ قاعدة ردّ الفعل المعروف (أطرِق و سيُفتَح لك) فعّالة بالنسبة للأفراد الذين يتّسمون بالجاذبيّة. ففي كلّ الاستجابات القائمة على ذلك المبدأ، نجدها تحدث تلقائيّا دون أيّ تفكير مسبق. الاستجابة نفسها يمكن تصنيفها مع ما يدعوه علماء النفس (أثر القبول)، و يحدث ذلك الأثر عندما يستخدم شخص إيجابي أسلوبا يُقدِّره و يحترمه الآخرون. إنّ الدليل الآن أصبح واضحا على أنّ الجاذبيّة الجسديّة هي غالبا تُماثل الشخصيّة بسِماتها الجذّابة. كما أظهرت الأبحاث أنّنا نمنح أولئك الأفراد حسني الهيئة   و المظهر ملامح مفضّلة مثل: المهارة، الطيبة، الأمانة و الذكاء.
هناك عامل آخر لا يقلّ أهمّية، إذا توفّر لدى القائم بالاتّصال، زاده جاذبيّة و قوّة، ألا و هو: (الكاريزما)، التي يعرّفها هاورد فريدمان بأنّها: " حضور مميّز و مثير". فعندما يدخل الشخص ذو الحضور المميَّز إلى مكان ما، يُلفت انتباه الموجودين إليه، و قد يطغى وجوده على الآخرين؛ فالطاقة الإيجابيّة التي تنبعث منه كفيلة بأن تمنح الحياة، الحيويّة و النشاط في كلّ أفراد المجموعة. يضيف فريدمان بأنّ أساس الكاريزما هو الثقة القويّة بالنفس و القدرة على إسقاطها على الآخرين.
يُعرِّف طوني أليساندرا الكاريزما بالقدرة على التأثير إيجابيّا على الآخرين من خلال عمليّة التواصل معهم على الصعيد الفيزيائي، العاطفي و العقلي. إنّ الكاريزما هي الطريق التي تحرِّك و تستدعي كلّ قوى الإنسان و طاقاته، إنّها السبيل للارتباط بالنفس و التفاعل معها، و من ثمّ الارتباط و التفاعل  مع الآخرين.

ت) قوّة المصدر أو المرسِل (السلطة و النّفوذ):
يستطيع الشخص في موقع السلطة تقديم الثواب أو العقاب، و يهتمّ بالحصول على الموافقة للرسائل التي يُقدِّمها، و أن يتمّ تدقيق النظر فيها من جانب المتلقّي. بالتالي فإنّ: مصداقيّة المرسِل تؤدّي إلى تفاعلنا الداخلي مع الأفكار الجديدة، و تُحقِّق جاذبيّته الشعور بالتوحّد، و تؤدّي السلطة إلى الحصول على الموافقة أو الإذعان.